كثير من الكتاب والمبدعين يمثل لهم المكان عنصرا مهما قد يلعب هذا العنصر دورا فاعلاً في إلهام وبعث كوامن النفس البشرية المعذبة وقد يحمل المكان دلالة واعية لبعض المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي تمثل بعدًا تاريخياً أحياناً أو دينياً أو عقائدياً،حيث يشكل المكان مساحة تؤكد علي تيار فكري يتجذر في كيان الإنسان الذي يسعي إلي تحقيق ذاته في عالم قد يشعر أنه غريب أو مغرب بفعل البعد الاجتماعي وعدم الانخراط بشكل طبيعي في هوية هذا الوطن، وقد يرجع هذا إلي تكوين الفرد من بداية مولده مروراً بفترات ودلالات هذا المفردات بالنسبة له في انطباعه لما يحيط به من جغرافية المكان.
يؤكد هذا العنصر الروائي الكبير نجيب محفوظ، حينما يقول: «منذ مولدي في حي سيدنا الحسين وتحديدا في يوم الاثنين 11 ديسمبر عام 1911 ميلادية، وهذا المكان يسكن في وجداني عندما أسير فيه أشعر بنشوة غريبة جداً أشبه بنشوة العشاق، كنت أشعر دائماً بالحنين إليه لدرجة الألم، والحقيقة أن الحنين لم يهدأ إلا بالكتابة عن هذا الحي حتي عندما اضطرتنا الظروف لتركه والانتقال إلي العباسية. كانت متعتي الروحية الكبري هي أن أذهب لزيارة الحسين. وفي فترة الإجازة الصيفية أيام المدرسة والتلمذة كنت أقضي السهرة مع أصحابي في الحسين، ونقلت عدوي الحب لهذا الحي إلي أصدقائي، فتحت أي ظرف لابد أن تكون السهرة في الحسين، وحتي لو ذهبنا لسماع أم كلثوم وتأخرنا إلي منتصف الليل لا نعود إلي منازلنا إلا بعد جلسة طويلة في «الفيشاوي» نشرب الشاي والشيشة ونقضي وقتا في السمر والحديث».(1)
من خلال سياق هذه الاعترافات نشعر بأن المكان لعب دوراً كبيراً في أغلب إبداعات الروائي «نجيب محفوظ» حيث يسعي إلي رؤي واقعية تجسد مشكلات الحارة المصرية وفي نفس الوقت تعبر عن هموم وتطلعات هؤلاء الحرافيش، كما كان يطلق عليهم بل كانت إحدي رواياته التي لفتت الأنظار واهتم بها النقاد من حيث اللغة ومستوي الحوار وصدق البعد الاجتماعي الذي طرحه برؤي فلسفية متعمقة. مما لا شك فيه أن دراسته للفلسفة في آداب القاهرة كانت تنعكس علي أعماله الإبداعية علي مستوي الحوار بل ويزيد علي ذلك تكوينه الثقافي والمعرفي وتأثره بالكتاب العظام الذين انفتح علي قراءة رواياتهم التي انعكست علي موهبته الجبارة، (قرأت «الحرب والسلام» لتولستوي و«الجريمة والعقاب» لدستويفسكي، قرأت القصة القصيرة لتشيكوف وموباسان، في نفس الوقت قرأت لكافكا وبروست وجويس. أحببت شكسبير، أحببت سخريته وفخامته ونشأت بيني وبينه صداقة عميقة وكأنه صديق، كذلك أحببت يوجين يونيل وإبسن وسترندربرج وعشقت موبي ديك لميلفيل، أعجبني دوس باسوس ولم يعجبني همنجواي، كنت في دهشة من الضجة الكبيرة المحيطة به. أحببت من أعماله «العجوز والبحر» وجدت فولكنر معقداً أكثر من اللازم وأعجبت بجوزيف كونراد وشولوف وحافظ الشيرازي وطاغور، وهنا تلاحظ أنني لم أتأثر بكاتب واحد بل أسهم هؤلاء كلهم في تكويني الأدبي، وعندما كتبت لم أكن أقع تحت تأثير أحدهم ولم تبهرني الإنجازات التكنيكية الحديثة) (2).
يؤكد نجيب محفوظ أن الصبغة التأثيرية التي سيطرت علي أعمالة الإبداعية لم تأت من هؤلاء الكتاب ولم يتأثر بإبداع فرد ما ولا بإنتاج مبدع ما لكن المكان الحارة هي التي كانت تشغل فكر ووجدان نجيب محفوظ، وهنا تظهر أهمية الخطاب الروائي الأيديولوجي حينما تنبعث رائحة الجمالية وعبق حي سيدنا الحسين وخان الخليلي وزقاق المدق خاصة الثلاثية التي شكلت مساحة مهمة جدا في واقعية أدب نجيب محفوظ والتي تمثل فترة تاريخية أو حقبة مهمة جدا في تاريخ مصر من بداية ثورة 1919 حتي الحرب العالمية الثانية وهي بداية الأربعينيات فكانت الشخصيات تعبر عن الصراعات القائمة بين تيار الوطنية الذي يحاول أن يكسر قيد الاحتلال خلال المظاهرات التي تلهب شعور المواطنين وتدفعهم إلي الميادين والأزقة شاهرين رفضهم للاحتلال الإنجليزي بقيادة الزعيم سعد زغلول الذي عشقه محفوظ وسطر أنصع الصفحات في حياته السياسية وكفاحه المستمر من أجل تحرير الوطن.
«في سني الصغيرة كانت ثورة 19 تمثل مجموعة من الناس يتجمعون ويهتفون ويهجمون علي بعض المنشآت ثم يضربون بالرصاص وتسيل دماؤهم وكنت أري الخيالة الإنجليزية في أيديهم البنادق التي يطلقونها علي المصريين. مازلت أري هذه الصورة واضحة في مخيلتي منذ سن السابعة وإن كنت في ذلك الوقت لم أكن أفهم هذه الأحداث(3).
لعب العقل الباطن الذي أصبح مخزنا للأحداث التي كانت تمر علي مراحل التطور السني لـ«محفوظ» من بداية طفولته انخرطت بشكل مباشر بالحارة المصرية متلاحما مع صدي هذه الأحداث أو مشاركا لها حتي كان يعود من آن لآخر لهذه الفترة يستلهم أو يستمد منها نسيجا لأحداث رواياته التي شكلت مرحلة مهمة وانتشارا واسعا لإبداعاته الروائية والقصصية أيضا.
بعد القاهرة الجديدة 1945 اتجه قلم نجيب محفوظ إلي حي قاهري شعبي عريق إلي حي الأزهر والحسين فاتخذه مسرحا بل قل موضوعا لروايتين متتاليتين هما خان الخليلي 1946 ، وزقاق المدق1947، وكان لحسن تصويره لحياة الناس في هذه المنطقة من القاهرة أبلغ الأثر في شهرة كل من المعلمين .إذ نجح في أن ينقل إلي القارئ صورة حية لجو الحي أضحت خالدة في ذاكرة قراء العربية.
ولا جدال في أن اسم زقاق المدق هو أول ما يتبادر إلي الذهن عند ذكر هذا الموضوع إلا أن لخان الخليلي مكانة خاصة في هذا الصدد فهي أول ثمرة لانفعال الكاتب فنيا بالحي الذي ارتاده سنوات بحكم عمله كموظف في وزارة الأوقاف «كانت خان الخليلي بمثابة استكشاف للإمكانيات الفنية للحي القديم وتلتها مرحلة أخري في الآفاق» (4)
يقول الأديب جمال الغيطاني لم أر إنسانا ارتبط بمكان نشأته الأولي مثل نجيب محفوظ، عاش في الجمالية اثني عشر عاما هي الأعوام الأولي من عمره ثم انتقل الي العباسية لكنه ظل مشدودا إلي الحواري والأزقة إلي الحسين إلي الجمالية إلي الناس الذين عرفهم وعرفوه ثم كان المكان محورا لاّهم وأعظم أعمال الأدبية (5)
هنا تبرق خصوصية المكان في أحداث أعمال نجيب محفوظ الروائية وأهمية توظيف هذا العنصر بشكل يخترق الواقع البيئي وما تنتجه الحارة أو الحي من أشخاص يتحاورون ويصنعون في نفس الوقت عالما يخصهم تتجسد فيه عاداتهم: أفراحهم وأحزانهم وأوجاعهم. التماسك الأسري الذي ترجمه محفوظ من خلال علاقته مع عائلته التي يشعر أنها كانت علاقة مثالية من بداية حميمية الأب مع الأم والتعاطف مع الأبناء والتراحم الموجود بين العائلات وبعضها البعض. الزيارات التي تؤكد المودة بشكل تفقده المدنية والأحياء الراقية، حيث نجد الفرد يعيش بمعزل عن الآخر.
فالمكان يمثل دلالة واعية لجغرافية الحي من مقهي، صالون الحلاقة، محل البقالة، مكان المكوجي، البيوت التي تعلوها المشربيات، المساجد، المآذن، الميادين والحارات، مراسم الأفراح، المناسبات الدينية عندما يهل شهر رمضان بنفحاته الإيمانية والروحانية ويقوم الصبية بتعليق الزينات في مداخل الحارات والأحياء البسيطة، إحياء هذه الليالي بقراءة القرآن الكريم، حفلات الفطور التي تقام في المساجد.. كل هذه المظاهر كانت تشكل لنجيب محفوظ جزءا كبيرا من خياله الجامح الفذ الذي استطاع ببراعة فائقة أن يجعل روايته من لحم ودم هؤلاء جميعا.
«إن ما يحركني حقيقة عالم الحارة هناك البعض يقع اختيارهم علي مكان واقعي أو خيالي أو فترة من التاريخ ولكن عالمي الأثير هو الحارة، أصبحت الحارة خلفية لمعظم أعمالي حتي أعيش في المنطقة التي أحبها» (6).
كانت هذه القراءة المتأنية في عنصر المكان لبعض أعمال الروائي العالمي نجيب محفوظ هي بمثابة إلقاء الضوء علي حياة هذا الراحل الكبير في عالم الأدب خاصة الرواية وما حقق من مكانة عالمية وما أضفي علي الأدب العربي من شهرة بين الآداب الأخري مثل الأدب الروسي والفرنسي والإنجليزي، مما أوجب علينا أن نُحيي رحيله من خلال أحاديثه الجميلة التي أرخت حياته الإبداعية من بداية الحارة مرورا بمراحل عمرية مختلفة حتي توج بجائزة نوبل عام 1988.
هذه القراءة ما هي إلا زهرة نادية نضعها بأيد حانية علي تاريخ هذا المبدع الذي اتسم بكل صفات الكاتب المتواضع فرفعه الله عز وجل أعلي مكانة في الأدب العالمي.