الدرويش حسن 09 تموز 2009 الساعة 14:50 الجهل هو المرض الأفتك و الفقر الأعظم , وهو المصيبة الأكبر التي تصيب الإنسان و تلازمه ... و هو الكارثة المتكاثرة بمعنى أنه لا يقف عند حد معين ففي كل موقف أو حادث ما , يودي بصاحبه إلى كارثة مستقلة عن الأولى , لعدم قدرته على التعامل مع ذاك الموقف أو الحادث .
لهذا تتوالى الكوارث و المصائب و تتفاقم عند الشخص - العائلة , الجماعة , الشعب - الجاهل ..
ما هي المصيبة ؟؟
المصيبة نتيجة و محصلة لسبب أو لعدة أسباب معينة و ليست حدثاً مستقلاً بطبيعته ..
و إذا ما أردنا تبسيط المفهوم نقول : المصيبة هي نتيجة لعدم قدرة العقل على فهم أسباب حدوث الظاهرة ( المصيبة ) و تحليل عناصر نشوئها بغية تخطيها ..
أي أن المصيبة لا تكون مصيبة إلا عندما يعجز العقل عن تفسيرها و إيجاد الحلول لها ..
و المصيبة في حقيقتها و جوهرها صعوبة و لكن هذه الصعوبة ليست صعوبة مادية و إنما هي صعوبة عقلية مجردة .. خاضعة لتسامي الفكر عليها و ترضخ لقدرة العقل على فهمها و تذليلها , بغية تجاوزها , لتحويلها إلى درجة جديدة في سلم الخبرات الذي يرتقي به العقل نحو الأفضل ..
و متى استطاع العقل فهم الصعوبة انتفى لدى الشخص إحساسه بالمصيبة , و طبعاً لكي يستطيع العقل فهم هذه الصعوبة و تجاوزها لا بد له من تلمس حواس المعرفة و إدراك ما يتيسر له من طرائق العلم والحكمة بشتى الوسائل كي يستعين بها كمرتكز أساسي في تحليل الصعوبة التي تعترضه بهدف تخطيها .
إن أهمية إدراك الإنسان للفكرة الرئيسية في موضوعنا و التي تقول بأن المصيبة نتيجة وليست سبب - و أقصد بالإدراك هنا الإدراك الصريح المجرد و المباشر و ليس الإدراك اللاواعي أو الإدراك الببغائي العام - هي ما يفرض على المدرك لكُنْهِها , نشر هذه الفكرة و إيصالها إلى العقول التي يخاطبها .. لأنه متى استوعب الإنسان هذه الفكرة فإنه يستطيع أن يؤثر في أسباب هذه النتيجة بما يؤدي إما إلى زوالها أو إلى تغييرها ..
و الأمر هنا أشبه ما يكون بإعادة الزمن إلى الوراء مع القدرة على التلاعب بالأسباب لتغيير النتيجة و تحويلها من ما سوف يكون إلى ما يجب أن يكون ..
بإمكاننا إسقاط الفكرة على الكثير من عادات الإنسان اليومية و أفعاله سواء أكانت فكرية أو اجتماعية أو سياسية .. إلخ ...
و أورد على سبيل المثال لا الحصر ما يلي :
تنتهي من تبديل اسطوانة الغاز في المنزل و تريد أن تختبر التسرب .. تجد بالقرب منك ولاعة ( قداحة ) قبل أن تشعلها لتقوم بتمريرها على صمامات الاتصال يومض لك عقلك بأن الاسطوانة اشتعلت و بأنك فوجئت بالموقف فارتبكت و لم تعد تستطع السيطرة على الوضع مما أدى إلى انفجار الاسطوانة ( المصيبة ) .. تعود فتلقي بالولاعة و تستخدم إسفنجة مبللة بالرغوة ...
تقود سيارتك على طريق سريع ... السرعة محددة طبعاَ .. يُغريك تدفق الأدرينالين بزيادة السرعة فتسرع أكثر .. و أكثر .. و أكثر .. فجأة يأتيك الوميض بأن المكابح تعطلت و بأنك لم تعد تسيطر على السيارة فانحرفت عن الطريق و تحطمت السيارة و يسعفك عقلك بصورة سيارة مشوهة تماماً ( المصيبة ) .. فترفع قدمك عن البنزين محاولاً التراجع إلى السرعة المحددة ..
هذا هو العقل في بدايات إدراكه للمصيبة و أسبابها و القدرة على التحكم بالنتائج ..
لا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن هذا الإدراك المباشر و الصريح لكون المصيبة نتيجة و ليست سبب أو حدث مستقل عن الإرادة , يجب أن يتوافر في جميع عقول الشخص , الجماعة , المجتمع , الإنسانية كي تبدأ آثاره بالظهور ..
طبعاً الأثر الناجع الأول لهذا الإدراك يتمثل في فهم الإنسان أنه بتصرف خاطئ مقصود منه قد يتسبب بحصول مصيبة إما له أو لغيره .. و أود التشديد هنا على كلمة ( لغيره ) لأن القاعدة التي تسير عليها شعوبنا هي : أنا و من بعدي الطوفان .. و مئة أم تبكي و لا أمي تبكي .. و فخار يطبش بعضه .. و عمرو ما حدا يورت .. و إن ما خربت ما بتعمر .. و الغاية تبرر الوسيلة .. و اتركها على الله أحسن شي .. و ماحدا بياخد غير نصيبه .. و كله قسمة و نصيب .. و غيرها من القواعد و المبادئ الساقطة و التافهة و الوقحة التي تدل على شدة الانحطاط الفكري و الثقافي و الأخلاقي المخيف الذي وصلت إليه مجتمعاتنا ..
الأثر الثاني للإدراك المباشر للمصيبة على أنها نتيجة , هو حصر المفهوم الجمعي للقضاء و القدر و أمر الله في كوارث الطبيعة و القوى القاهرة فقط ( إلى أن يتوصل العلم إلى القدرة على التحكم بهذه الظواهر ) .. و عدم نسب أخطاء عقول البشر المقصودة بكل فداحتها و خزيها لقضاء الله و قدره ..
لأن استمرار نَسب أخطاء البشر البهيمية للإله و لقضائه و قدره هو ما يقطع الطريق على العقل و يجعله يستكين , و من ثم يتوقف , عن محاولة فهم أسباب المصيبة التي حلت به ..
إن الاستمرار في تعليق الأخطاء على مشجب الإله – القضاء و القدر - هو ما يودي بالعقل إلى التسطح و الانسحاب من حواره مع الصعوبة ..
لاشيء يصقل العقل و الفكر كالصعوبة , و متى توقف العقل عن محاورة الصعوبة و محاولة تحليلها و التغلب عليها توقف عن الإبداع و التطور ..
ليس هدفنا هنا الدفاع عن القضاء و القدر أو عن الله و أوامره و لسنا في وارد البحث و التوسع في هذه المفاهيم و إنما ينحصر مقصدنا في الخروج من دائرة هذه المفاهيم و إعادتها , بعد أن اتسعت و تمددت , إلى حدودها الأساسية الأصيلة و التي تخضع بدورها أيضاً للتغير و التغيير بحسب ما يتوصل له العلم ..
- إعدام العقل :
قلة قليلة من الناس من يقوم بفعل خاطئ مقصود دون علم منه بأن فعله خاطئ و طبعاً هذا الشخص بحاجة لإعادة تأهيل حكماً .. أما الأغلبية الساحقة فهم ممن يقدم على فعله الخاطئ المقصود بعلم و دراية كاملة لنتائج فعله الأرعن , و لكنه !!! و لكنه يغامر بالقيام بالفعل , و يأمل و يرغب و يتمنى من الله أن تأتي العواقب سليمة و دون نتائج سلبية تُذكر .. !!!
هذا هو إعدام العقل بأبشع صوره و مظاهره .. العلم بخطأ الفعل و الاستمرار بالقيام به و تكراره على نحو بهيمي و تعمد التجاهل و التناسي للآثار التي قد يسببها هذا الفعل ..
في مجتمعاتنا الغالبية الساحقة تعيش على هذا المنوال .. بلا عقل ..
كل مناحي الحياة متروكة لله و للقضاء و القدر ...
يدهس طفل في الشارع .. يموت .. يتبارى رجال الحكمة و المواعظ بنسب الأمر لله و لقضائه و قدره .. عسى أن يكون في ذلك سلواناً لذوي الفقيد ..
طبيب أسنان يقتل مريضه بنقل فيروس التهاب الكبد .. أيضاً أمر الله .. فقد حانت ساعة الفقيد ..
عامل يقع من الطابق السابع .. انتهى عمره .. قدر الله و ما شاء فعل ..
زوج و أب يخرج ليلاً ليضع القمامة في مكانها المخصص , تسقط رصاصة في رأسه .. قادمة من سلاح أحد مبتهجي العرس الذي تدور أحداثه في القرية المجاورة ..
و القائمة لا تنتهي من قصص و أعاجيب الإنسان في محاولته لإعدام عقله ..
و النتيجة قضاء و قدر و أمر الله .. !!!
إن حديثنا هنا يشمل جميع أنواع المصائب فيما عدا الجهل , فأمام الجهل ليس لدى العقل أي مرتكز يستند عليه لتجاوزه , و بالتالي تتحول هذه المصيبة إلى أسباب لمصائب أخرى .
و ننهي قولنا بطلب إلى مقام العقل الموقر :
الرجاء الكف عن محاولة إعدام نفسك , و حاول أن تتأنْسَن .